فصل: (سورة النور: آية 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة النور: آية 31]:

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}.
النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبى إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأسا، ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك.
وغضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم- وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول اللّه، أليس أعمى لا يبصر؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ فإن قلت: لم قدّم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. الزينة: ما تزينت به المرأة من حلىّ أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب. فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر، لأنّ هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن، فنهى عن إبداء الزين نفسها. ليعلم أنّ النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع- بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مفال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين اللّه في الكشف عنها فإن قلت. ما تقول في القراميل، هل يحل نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم. فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها، وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذى ما تحت السرة؟ قلت: الأمر كما قلت، ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلا فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلا عن هؤلاء، إلا إذا كان يصف لرقته فلا يحل النظر إليه، فلا يحل النظر إلى القراميل واقعة عليه. فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة؟
ذلك العضو كله، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء. فإن قلت: لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهنّ، وهذا معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها يعنى إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما سومح في الزينة الخفية. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهنّ حتى يغطينها، ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسمية بما يليها ويلابسها. ومنه قولهم: ناصح الجيب. وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه. وعن عائشة رضي اللّه عنها: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها المرحل فصدعت منه صدعة، فاختمرن، فأصبحن كأن على رءوسهن الغربان.
وقرئ: {جيوبهن}، بكسر الجيم لأجل الياء. وكذلك {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قيل في نسائهن: هنّ المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. عن ابن عباس رضي اللّه عنهما. والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء، كلهنّ سواء في حلّ نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: ما ملكت أيمانهنّ هم الذكور والإناث جميعا. وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر.
وعن سعيد بن المسيب مثله، ثم رجع وقال: لا تغرنكم آية النور، فإن المراد بها الإماء. وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبى منها، خصيا كان أو فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصى، فتقنعت منه، فقال: هو خصىّ فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرّم اللّه؟ وعند أبى حنيفة: لا يحل استخدام الخصيان وإمساكهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم.
فإن قلت: روى أنه أهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خصىّ فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه، أو لسبب من الأسباب. {الْإِرْبَةِ} الحاجة، قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن. أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة. وقرئ {غَيْرِ} بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجرّ على الوصفية. وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس. ويبين ما بعده أن المراد به الجمع. ونحوه: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}، {لَمْ يَظْهَرُوا} إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أى: لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من ظهر على فلان إذا قوى عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أى: لم يبلغوا أو أن القدرة على الوطء. وقرئ: عورات، وهي لغة هذيل. فإن قلت: لم لم يذكر اللّه الأعمام والأخوال؟
قلت: سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم، فيدانى تصوّره لها بالوصف نظره إليها، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهى عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. أوامر اللّه ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها. وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمرّ على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. وقرئ: أيه المؤمنون، بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.

.[سورة النور: آية 32]:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)}.
{الْأَيامى} واليتامى: أصلهما أيائم ويتائم، فقلبا. والأيم: للرجل والمرأة. وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال:
فإن تنكحى أنكح وإن تتأيّمى ** وإن كنت أفتي منكم أتأيّم

وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم» والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من قرم الصبى والبهم قرما، وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. والقرم بالتحريك: شدة شهوة اللحم اهـ. ويروى في الحديث: «القذم» بالذال بدل الراء. وفي الصحاح: القذم على وزن الهجف: الشديد. وفيه أيضا: الهجف من النعام ومن الناس. الجافي الثقيل. قال الكميت:
هو الأضبط الهواس فينا شجاعة ** وفيمن يعاديه الهجف المثقل

ولا يستقيم الوزن إلا بتشديد الفاء. وفيه الهواس: الأسد.
غلمانكم وجواريكم. وقرئ: من عبيدكم. وهذا الأمر للندب لما علم من أنّ النكاح أمر مندوب إليه، وقد يكون الوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك، وعند أصحاب الظواهر: النكاح واجب. ومما يدل على كونه مندوبا إليه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي وهي النكاح» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من كان له ما يتزوّج به فلم يتزوج فليس منا». وعنه عليه الصلاة والسلام: «إذا تزوّج أحدكم عج شيطانه: يا ويله، عصم ابن آدم منى ثلثي دينه» وعنه عليه الصلاة والسلام: «يا عياض لا تزوّجن عجوزا ولا عاقرا، فإني مكاثر» والأحاديث فيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم والآثار كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدّى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إذا أتى على أمتى مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤس الجبال» وفي الحديث: «يأتى على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة» فإن قلت: لم خص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأنّ الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودّة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم. وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. أو أريد بالصلاح: القيام بحقوق النكاح. ينبغي أن تكون شريطة اللّه غير منسية في هذا الموعد ونظائره وهي مشيئته، ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة، ونحوه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح، وبفاسق تاب واتقى اللّه وكان له شيء ففنى وأصبح مسكينا.
وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح».
وشكا إليه رجل الحاجة فقال: «عليك بالباءة» وعن عمر رضي اللّه عنه: عجبت لمن لا يطلب الغنى بالباءة. ولقد كان عندنا رجل رازح الحال، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته؟ فقال: كنت في أول أمرى على ما علمت، وذلك قبل أن أرزق ولدا، فلما رزقت بكر ولدى تراخيت عن الفقر، فلما ولد لى الثاني زدت خيرا، فلما تتاموا ثلاثة صبّ اللّه علي الخير صبا، فأصبحت إلى ما ترى {وَاللَّهُ واسِعٌ} أي غنىّ ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق، ولكنه {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

.[سورة النور: آية 33]:

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه {لا يَجِدُونَ نِكاحًا} أي استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} مرفوع على الابتداء. أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فَكاتِبُوهُمْ} كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة: وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق. ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق. ويجوز عند أبى حنيفة رضي الله عنه حالا ومؤجلا. ومنجما وغير منجم لأن اللّه تعالى لم يذكر التنجيم، وقياسا على سائر العقود. وعند الشافعي رضي اللّه عنه: لا يجوز إلا مؤجلا منجما. ولا يجوز عنده بنجم واحد لأنّ العبد لا يملك شيئا، فعقده حالا منع من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلا. ويجوز عقده على مال قليل وكثير، وعلى خدمة في مدة معلومة، وعلى عمل معلوم مؤقت: مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض وبناء دار قد أراه آجرها وجصها وما يبنى به. وإن كاتبه على قيمته لم يجز. فإن أداها عتق.